الصفحة الرئيسية » » اللغة والاقتصاد فى شرق إفريقيا

اللغة والاقتصاد فى شرق إفريقيا

اللغة والاقتصاد فى شرق إفريقيا
أ.د. عبدالحى أحمد محمد سالم
أستاذ اللغة السواحيلية ورئيس قسم اللغات الإفريقية بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر

        يفرض الواقع الاقتصادى نفسه على كل شعوب العالم. فعندما يكون الاقتصاد قويا فى دولة ما، تزداد الأهمية الاقتصادية والسياسية لهذه الدولة على المستوى العالمى. وعندما تزداد الأهمية السياسية للدولة، يزداد اهتمام العالم لتعلم لغتها مما يؤدى إلى انتشارها خارج حدود بلادها. وهذا يؤدى بدوره إلى تطور اللغة واكتسابها ألفاظا و مصطلحات وتراكيب جديدة  مما يؤدى فى النهاية إلى إثراء هذه اللغة وقدرتها على التعبير عن المواقف المختلفة.

        فالعلاقة بين الاقتصاد واللغة علاقة وثيقة، وكلما قوى الاقتصاد فى الدولة قويت لغتها وانتشرت وأصبحت من اللغات العالمية الهامة. والتواصل الحضارى بين الشعوب يتطلب اللغة كوسيلة للتفاهم والتبادل الثقافى والحضارى، كما يتطلب العملة كوسيلة للتعامل المادى وتبادل السلع والمنتجات. فاللغة والعملة وجهان للتواصل الحضارى والمادى بين شعوب العالم، وبينهما ارتباطا وثيقا بحيث لا يمكن الاستغناء عن إحداهما فى عملية التواصل الحضارى والمادى فى العالم . (1)

 

        ويعتبر الجانب الاقتصادى فى الحياة الاجتماعية السبب الأساسى فى عملية نشأة اللغات. فعن طريق التجارة يبدأ الاختلاط والتواصل بين مجتمع لغوى بأخر ينتج عن ذلك نشأة لغة تفاهم مشتركة كاللغات الحرفية. من هذه اللغة البسيطة التى تُستعمل للتفاهم بين رجال الأعمال ذوى اللغات المختلفة تبدأ جذور لغة هجين ( Pidgin  ) من أكثر من لغة، تسيطر عليها المفردات الاقتصادية المأخوذة من تلك اللغات. ومع مرور الزمن تتحول هذه اللغة الهجين إلى لغة مستقرة نسبيا، هذه اللغة تسمى عند اللغويين باللغة الكريول (Creole). وعندما تستقر هذه اللغة بمرور الزمن تصبح لغة أم للأجيال القادمة فى هذه المجتمعات .(2)

والعلاقة بين اللغة والاقتصاد على سبيل المثال فى شرق أفريقيا، تقوم على الاهتمام باللغة كوسيط للتفاهم والتعامل فى المجال الاقتصادى. ويأتي هذا عندما تصبح اللغة ضرورية فى مجال التوظيف والتجارة ومجالات الثقافة والتحضر. فالوظائف المتميزة ذات الدخل الوفير تتوفر للذين يجيدون أكثر من لغة غير لغتهم الأم. ولذلك نجد أن اكتساب لغة أجنبية يحرص عليه أبناء الريف والحضر على حد سواء حرص كل منهم على نيل الوظيفة ذات الدخل المرتفع فى السياحة والفنادق وغيرها من الشركات التجارية الكبرى التى تعمل فى مجال الاستيراد والتصدير من وإلى الدول الأجنبية.

        والوضع اللغوى والاقتصادى فى شرق أفريقيا مرتبطان ارتباطا وثيقا لصالح اللغة السواحيلية بشكل متفاوت نسبيا طبقا لظروف المكان (تنزانيا وكينيا وأوغندا) ونمط النشاط الاقتصادى. فمع تعدد اللغات المحلية فى هذه البلاد تزداد حاجة المجتمع إلى لغة تفاهم مشترك يتعامل بها الصفوة والعامة لزوم التبادل التجارى بين هذه الدول وكذلك الأسواق المحلية. وقد أصبحت اللغة السواحيلية لغة التجارة فى هذه البلاد، ومن ثم يهتم بتعلمها أبناء اللغات الأخرى لتسهيل عملية التبادل التجارى بينهما. فقلما تجد أحدا من أبناء اللغات المحلية الأخرى غير السواحيلية لا يتحدث السواحيلية مع لغته الأم لأهميتها التجارية والوظيفية.(3)

وقد تركز الاهتمام على اللغة السواحيلية فى شرق أفريقيا لأنها ـ من وجهة نظر الباحث ـ أقدم اللغات المكتوبة فى شرق أفريقيا (4) . كما تُعد من أكثر اللغات الأفريقية انتشارا فى شرق أفريقيا. فقد قام العرب منذ القرن الأول الهجرى بكتابة اللغة السواحيلية بالحروف العربية، وقد تم ذلك عندما نزل رجال الأعمال العرب سواحل شرق أفريقيا.(5)   ومنذ ذلك الحين واللغة السواحيلية تعتمد على المفردات الاقتصادية التى اكتسبتها من رجال الأعمال العرب ومازال الكثير من المفردات الاقتصادية المأخوذة من اللغة العربية عن طريق التجارة مستخدمة فى اللغة السواحيلية حتى الآن. مثل المفردة ( Fedha  ) فضة، وتستخدم بمعنى نقود أو عملة، والمفردة (Sarafu) صراف، وتستخدم بمعنى عملة معدنية، والمفردة العربية (Shirika  ) شركة أو مؤسسة، وهى تُستخدم بنفس معناها العربى.

وقد انتشر التجار العرب بتجارتهم من الساحل إلى الداخل، مستخدمين اللغة السواحيلية فى التعاملات التجارية، مما أثرى اللغة السواحيلية بالمفردات. وظل استخدام السواحيلية منذ ذلك الحين بفضل الاقتصاد حتى أصبحت أهم لغة للتجارة فى شرق أفريقيا.

ومن هنا نجد أن الاقتصاد  ـ  خصوصا التجارة ـ  هو القوة الكبيرة الدافعة وراء انتشار اللغة السواحيلية، والتى صارت بسببه مستخدمة بوصفها اللغة الرئيسية للاتصال الأوسع عبر الحواجز اللغوية. وفى الوقت نفسه نجد أن انتشار المنشئات الاقتصادية فى مناطق كثيرة والهجرة استجابة لحاجة سـوق العمل قد قاما بدور مهم أيضا. واللـغة السواحـيلية اليـوم هى لغة التعليم ـ باستثناء التعليم الجامعى ـ بدون منافس علاوة على أنها اللغة القومية والرسمية فى تنزانيا، وهى اللغة القومية فى كينيا علاوة على أنها اللغة الرسمية مع اللغة الإنجليزية، فهى وسيلة الاتصال الأساسية بين أصحاب اللغات المختلفة. وتقوم السواحيلية بوظائف مهمة فى جنوب شرق زائير ( الكنغو الديمقراطية حاليا ) ولذا فهى تتمتع بوصفية رسمية فى هذه البلد أيضا. وكذلك الوضع بالنسبة لأوغندا، حيث تُستخدم على نحو كثيف فى التجارة الإقليمية والمحلية عبر الحواجز اللغوية. وتُستخدم السواحيلية أيضا بوصفها لغة للتجارة فى مناطق واسعة من رواندى وبوروندى.(6)


المراجع:

1 – Florian Coulmas, (1999): Language and Economy, Blackwell, Oxford UK, & Cambridge USA.
ترجمة الدكتور أحمد عوض، عالم المعرفة، العدد 263 الكويت فى 2001م  
2 – نفس المرجع السابق ص 205-213
3 – Ali A. Mazrui & Alamin M. Mazrui, (1995); Swahili State & Society, The Political Economy of an African Language, East African Educational Publishers, Nairobi, Kenya. Pp. 63 - 66
4-  عبد الحى أحمد محمد سالم؛ (1996)؛ السواحيلية بالحروف العربية، بحث منشور بمجلة كلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر، العدد 27 ، صفحة 94 ، القاهرة.
 5– Sayyid Abdallah A. Nasir, (1992); Al Inkishafi, The Soul’s Awakening, Oxford University Press, East Africa.

 – Florian Coulmas, (1999)
نفس المجع رقم 1 السابق  صفحة 248


0 التعليقات:

إرسال تعليق